اختتام أعمال الدورة العاشرة للجنة العليا اللبنانية – المصرية المشتركة
اختُتمت في القاهرة اليوم أعمال الدورة العاشرة للجنة العليا اللبنانية – المصرية المشتركة، برئاسة رئيس مجلس الوزراء اللبناني الدكتور نواف سلام، ورئيس مجلس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي، وبحضور عددٍ من الوزراء وكبار المسؤولين من الجانبين.
وضمّ الوفد اللبناني المشارك: وزير الاقتصاد والتجارة الدكتور عامر البساط، ووزير الخارجية والمغتربين السفير يوسف رجي، ووزير الأشغال العامة والنقل فايز رسامني، ووزير المالية ياسين جابر، وأمين عام مجلس الوزراء القاضي محمود مكيه، ومدير عام وزارة الاقتصاد والتجارة الدكتور محمد أبو حيدر، وسفير لبنان لدى جمهورية مصر العربية السفير علي الحلبي، ومستشارة رئيس مجلس الوزراء السفيرة كلود الحجل.
وجرى خلال الاجتماعات التوقيع على خمس عشرة اتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامج تنفيذي في مجالاتٍ متعددة شملت الاقتصاد والتجارة، النقل، التعليم العالي، الزراعة، الطاقة، المالية، الإدارة العامة، البيئة، التنمية الإدارية، التعاون الصناعي، حماية المستهلك، وتنظيم العمل المشترك بين الأجهزة الرقابية في البلدين.
وفي ختام الاجتماعات، عقد الرئيسان سلام ومدبولي مؤتمرًا صحافيًا مشتركًا أكّدا خلاله عمق العلاقات بين لبنان ومصر وحرص البلدين على تطويرها في مختلف المجالات، بما يخدم المصالح المشتركة للشعبين الشقيقين.
كلمة دولة الرئيس الدكتور نواف سلام
دولة الرئيس الدكتور مصطفى مدبولي،
أصحاب المعالي الوزراء،
السيدات والسادة،
يشرفني أن أكون اليوم في القاهرة، مهد التاريخ والحضارة، في مناسبةٍ تجمع بين بلدين شقيقين تشهد علاقتهما على عمق الروابط العربية وصدق الأخوّة.
نلتقي في الدورة العاشرة للجنة العليا اللبنانية – المصرية المشتركة، وهي ليست مجرد اجتماع بروتوكولي، بل محطة جديدة في مسيرة طويلة من التعاون والتكامل، تتجدد فيها الإرادة مهما تباعدت المسافات وتبدّلت الظروف.
لقد مرّت ست سنوات على انعقاد الدورة السابقة في بيروت عام 2019. ست سنوات تغيّر فيها الكثير في عالمنا وفي منطقتنا، لكنّ الثابت الوحيد هو الإيمان بأن ما يجمع لبنان ومصر أعمق من أي تبدّل سياسي أو ظرف اقتصادي.
أيها الحضور الكريم،
لقد كان اجتماعنا مناسبةً لتجديد التزامنا بالعمل العربي العملي لا الشعاراتي، ولتأكيد حرص بلدينا على إرساء نموذجٍ صادقٍ في التعاون القائم على تبادل الخبرات وتكامل القدرات وتوحيد الرؤى.
ناقشنا ملفات تمسّ جوهر حياة مواطنينا: من الطاقة والمياه والريّ إلى التعليم العالي والبحث العلمي، ومن الصحة والزراعة إلى البيئة والتكنولوجيا الرقمية، ومن النقل إلى التنمية المستدامة.
ووقعنا عددًا من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تُجسّد هذا التعاون في مؤسساتٍ ومشاريع واقعية تُترجم الأقوال إلى أفعال.
تميّزت هذه الدورة بروحٍ من الجدية والمسؤولية، وبإرادةٍ واضحة لتحويل التفاهمات إلى إنجازات. وهذه الروح هي التي تمنح العمل العربي بعده الحقيقي: أن يكون عملًا لا اجتماعًا، وشراكةً لا مجاملة.
يقدّر لبنان عاليًا الدور الرائد الذي تضطلع به جمهورية مصر العربية بقيادة فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي، في دعم الاستقرار الإقليمي، وفي الدفاع عن القضايا العربية، وفي مقدمتها قضية فلسطين، وفي السعي إلى ترسيخ الحلول السلمية للنزاعات وتعزيز منظومة العمل العربي المشترك.
كما لا ننسى مواقف مصر الأخوية الداعمة للبنان سياسيًا ودبلوماسيًا في أحلك الظروف الاقتصادية والاجتماعية، ومساندتها له في مختلف المحافل الدولية والعربية.
إنّ العلاقات اللبنانية – المصرية ليست نتاج ظرفٍ آنيّ، بل هي تاريخ طويل من التفاعل الفكري والثقافي والإنساني.
ومن بيروت إلى القاهرة، ومن بطرس البستاني إلى طه حسين، ومن الرحابنة إلى أم كلثوم، ومن الجامعة الأميركية إلى الأزهر الشريف، تمتد خيوط نهضةٍ عربيةٍ واحدةٍ نسجها اللبناني والمصري معًا، وتزيّنت بها سماء الثقافة العربية الحديثة.
واليوم، ونحن نلتقي مجددًا في القاهرة، نريد أن نحمل هذه الروح ذاتها إلى المستقبل، فشراكتنا نريدها أن تكون نموذجًا للتكامل لا للتنافس، وللتخطيط لا للارتجال، وللاستثمار في الإنسان قبل أي شيء آخر.
تحية لمصر، أمّ الدنيا،
وتحية لبيروت، ستّ الدنيا.”
كلمة دولة رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي
أكد رئيس الحكومة المصريّ أن مصر تدعم كلّ ما تقوم به الحكومة اللبنانية للحفاظ على أمن لبنان واستقراره، مشيرًا إلى أن بلاده تدين الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة على الجنوب اللبناني، وداعيًا الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب من النقاط الخمس تمهيدًا لبدء إعادة الإعمار.
وأعرب الرئيس مدبولي عن امتنانه لما تم توقيعه من مذكرات تفاهم مع لبنان، مشددًا على ضرورة تنفيذها، خصوصًا في الجانب التجاري والاستثماري، ومعلنًا أن مصر تشجّع شركاتها على المشاركة في مؤتمر الاستثمار المزمع عقده في بيروت قريبًا.
وأضاف:
“نحن سعداء بعودة انعقاد اجتماعات اللجنة العليا المشتركة بين مصر ولبنان، فالعلاقات الثنائية بين بلدينا لطالما كانت في مستوى متقدم.”
واختتم بالإعلان عن زيارة مرتقبة له إلى بيروت الشهر المقبل، برفقة عدد من الوزراء، لمواصلة تفعيل العلاقات الثنائية بين لبنان ومصر.
عبد العاطي:
وفي وقت سابق ، التقى سلام في القاهرة وزير الخارجية والهجرة المصري الدكتور بدر عبد العاطي، حيث تم البحث في العلاقات الثنائية بين لبنان ومصر، وتطورات الأوضاع في غزة والمنطقة، ولا سيّما المرحلة التي تلت اتفاق غزة وقمّة شرم الشيخ وما رافقها من جهود إقليمية ودولية لتثبيت الاستقرار.
وأكد عبد العاطي خلال اللقاء حرص مصر على مواصلة التنسيق والتشاور مع لبنان في مختلف القضايا ذي الاهتمام المشترك، مشيرًا إلى الزخم الذي تشهده العلاقات الثنائية على المستويين الرئاسي والوزاري، والتطلّع إلى تعزيز هذا المسار الأخوي وتطوير التعاون السياسي والاقتصادي والثقافي بين البلدين.
كما شدد على أهمية انعقاد الدورة العاشرة للجنة العليا المصرية – اللبنانية المشتركة كإطار لتعزيز التعاون، وتفعيل الاتفاقيات ومذكرات التفاهم القائمة، بما يسهم في إحداث نقلة نوعية في مسار العلاقات الثنائية.
وجدّد عبد العاطي تأكيد موقف مصر الثابت في دعم سيادة لبنان ووحدته الوطنية، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، ووقف الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة، مشددًا على ضرورة التنفيذ الكامل وغير الانتقائي للقرار 1701.
كما استعرض الوزير الجهود التي تبذلها مصر لتثبيت اتفاق شرم الشيخ وتنفيذ بنوده بالكامل، تمهيدًا لبدء مرحلة إعادة الإعمار وتعزيز الاستقرار في غزة، مشيرًا إلى التحضيرات الجارية لعقد مؤتمر القاهرة للتعافي المبكر وإعادة الإعمار والتنمية في القطاع بمشاركة عربية ودولية واسعة.
سلام: من جهته، ثمّن الرئيس سلام الدور المصري المحوري في تثبيت اتفاق غزة ورعاية الجهود الإقليمية من أجل الاستقرار، مؤكدًا أنّ لبنان يسعى إلى الاستفادة من المناخ الإقليمي الجديد لتثبيت وقف الأعمال العدائية.
وأشار الرئيس سلام إلى أنّ الظروف الحالية تشكّل فرصة لإطلاق مرحلة جديدة من التعاون العربي والدولي لدعم الاستقرار في لبنان".
جامعة الدول العربية: وزار رئيس مجلس الوزراء نواف سلام والوفد اللبناني المرافق مقرّ جامعة الدول العربية في القاهرة، حيث عقد اجتماعًا مع الأمين العام للجامعة السيد أحمد أبو الغيط، تناول الأوضاع الإقليمية والتطورات في لبنان والعلاقات اللبنانية–العربية وسبل تعزيز العمل العربي المشترك.
وبعد الاجتماع، توجّه الرئيس سلام إلى القاعة الكبرى في مقرّ الجامعة، حيث ألقى كلمةً أمام المندوبين الدائمين للدول الأعضاء، جاء فيها:
معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية،
أصحاب المعالي والسعادة،
أيها السيدات والسادة،
يشرفني أن أقف اليوم بينكم في القاهرة، وفي رحاب جامعةٍ هي من أقدم المنظمات الإقليمية في عالمنا المعاصر، بل من أعرقها تجربةً في تحويل الروابط التاريخية والحضارية إلى مؤسساتٍ وسياسات. ليست الجامعة مجرّد مبنى أو أمانة عامة؛ إنّها ذاكرةٌ مؤسسية لإرادةٍ عربيةٍ لا تنقطع، وإطارٌ حيّ لوجدانٍ جمعيٍّ صنعه تاريخ الإنسان العربي في محنه، كما في نجاحاته. ومن يملك الذاكرة، يملك القدرة على رسم المستقبل.
لقد سبقت الجامعة العربية التجربة الأوروبية والإفريقية والآسيوية، وأثبتت أن العرب امتلكوا منذ منتصف القرن الماضي رؤيةً متقدمة لفكرة التكامل الإقليمي قبل أن تتحول إلى نظرية سياسية واقتصادية في العالم. ومن القاهرة، القلب النابض للعالم العربي، نستعيد اليوم الإيمان العميق بأنّ العروبة ليست ماضياً يُستذكر، بل انها لا تزال مشروعاً للمستقبل.
حين أُعلنت جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1945، كانت الفكرة تتقدّم على التاريخ، لأنّ العرب، يومها، استشعروا باكرًا أن وحدة المصير لا تُصان إلا بإطارٍ يجمعهم، وأنّ المستقبل لا يُبنى على العواطف، بل على المؤسسات. كانت الجامعة العربية أول تجربةٍ إقليميةٍ في العالم الحديث، سبقت الأمم المتحدة بشهور، وسبقت الاتحاد الأوروبي بعقود، لتقول إنّ العروبة، في جوهرها، ليست انتماءً لغويًا أو وجدانيًا فحسب، بل مشروع تعاونٍ وعمل بين دولٍ ذات تاريخٍ مشترك ومصيرٍ واحد.
لقد حمل الآباء المؤسسون من مصر ولبنان والسعودية وسوريا والعراق واليمن فكرةً متقدّمة لزمانهم: أن تكون الجامعة بيتًا للعرب في زمن انقسام العالم، ومظلّةً تحفظ مصالحهم في عالمٍ لم يكن يعرف بعد معنى المنظمات الإقليمية. ومن هنا، كان الدور العربي رائدًا لا تابعًا، مؤسسًا لا ملحقًا، لأنّ العرب، قبل غيرهم، فهموا أنّ السياسة الدولية لا تُدار فقط بالتحالفات العسكرية، بل بالمؤسسات التي تُحوّل العمل المشترك الى فعل قوّة.
ومع مرور العقود، تغيّر العالم من حولنا. تراجعت الأيديولوجيات، وتقدّمت المصالح، وتحوّل المشهد الدولي إلى شبكةٍ من المنظمات الإقليمية التي باتت تلعب دورًا محوريًا في حفظ الأمن، وتنظيم الاقتصاد، وإدارة الأزمات العابرة للحدود. من الاتحاد الأوروبي إلى الاتحاد الإفريقي، من الآسيان إلى الميركوسور، أصبح الإقليم هو الوحدة الفاعلة في النظام الدولي، وأصبحت المجموعات هي التي تملك النفوذ، لا الدول المنفردة مهما بلغ حجمها.
وفي هذا السياق، تقع جامعة الدول العربية في قلب معادلةٍ جديدة: لم تعُد فقط مرجعًا رمزيًا للعروبة، بل هي مطالبة اليوم اكثر من أي يوم مضى بأن تتحوّل إلى أداةٍ استراتيجية لحماية المصالح الجماعية، وإطارٍ لتفعيل القدرات المشتركة في الأمن والتنمية والمعرفة. فالمنظمات الإقليمية الحديثة لم تنشأ لتحلّ محلّ الدول، بل لتقوّيها، وتمنحها عمقًا سياسيًا واقتصاديًا وأمنيًا، وتجعلها أكثر قدرة على التفاعل مع التحوّلات العالمية.
وهنا، تتجلّى أهمية المنظمات الإقليمية والدولية في القرن الحادي والعشرين: فهي ليست فقط أدواتٍ للتنسيق بين الدول، بل تجارب تعيد صياغة فكرة السيادة ذاتها. فالسيادة اليوم لا تُقاس بالاستقلال عن العالم، بل بالقدرة على المشاركة الفاعلة فيه. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ الجامعة العربية هي التعبير المؤسسي عن السيادة العربية في زمنٍ كونيٍّ متداخل.
وإذا كانت الأمم المتحدة تجسّد الشرعية الدولية بمفهومها القانوني، فإنّ الجامعة العربية تجسّد الشرعية الإقليمية بمفهومها الوجداني كما السياسي. الاثنتان معًا - أي الشرعيّتان الدولية والإقليمية - تشكّلان ركني النظام العالمي القائم على التعاون والتوازن. من هنا، فإنّ دور الجامعة لا يمكن ان يقتصر على إدارة العلاقات العربية–العربية، بل عليه ان يمتدّ إلى المساهمة في رسم توازنات العالم الجديد، من موقعٍ مستقلٍّ ومسؤولٍ، يؤمن بأنّ العرب لا يسكنون التاريخ فحسب، بل بإمكانهم ان يشاركوا في صناعته.
أيها الحضور الكريم،
تمرّ منطقتنا بلحظةٍ فارقة من تاريخها الحديث. فقد شهدنا خلال العامين الماضيين تصعيداً مجنوناً في فلسطين، واهتزازاتٍ أمنيةٍ في الخليج والبحر الأحمر، ودورات من العنف وأزماتٍ سياسية واقتصاديةً وبيئيةً واجتماعيةً خانقة في مشرق وطننا العربي كما في مغربه، ناهيكم عن الحرب في لبنان. كل هذه التحديات كشفت إنّ الحاجة اليوم هي إلى إعادة بناء مفهوم الأمن القومي العربي على أسسٍ حديثة: أمنٌ لا يُختزل في البعد العسكري وحده، مهما كانت أهميته، بل يشمل البعد الاقتصادي والتعليمي والتكنولوجي والاجتماعي.
فالأمن العسكري ركنٌ أساسيّ من أركان الأمن القومي، لكنه يبقى شرطًا غير كافٍ ما لم يُدعَم بالأمن الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي، لأنّ البنادق لا تحمي وطنًا جائعًا ولا مجتمعاً منقسماً على ذاته، ولا دولةً عاجزةً عن إنتاج المعرفة.
وفي قلب هذه التحديات تبقى فلسطين، القضية التي تختصر في ظلمها معنى الغياب العربي، وفي صمودها معنى الأمل العربي. لقد زادت إسرائيل من فائض قوتها، وسعت إلى توظيفه في تكريس واقعٍ جديد على الأرض، ولكن في المقابل، تغيّر الرأي العام العالمي نفسه. فقد بدأ الضمير الإنساني يعي عمق المأساة الفلسطينية، وصار مطلب العدالة لأهل فلسطين يُعبَّر عنه في الشوارع والجامعات ووسائل الإعلام الكبرى في شتى انحاء العالم.
وهنا تكمن المفارقة التي يجب أن نحسن قراءتها: فكلّما ازداد فائض القوة في الميدان، ازدادت الحاجة إلى فائض الشرعية في القانون والرأي العام.
من هنا رهاننا اليوم هو على إنهاء الاحتلال، ووقف الاستيطان، وحماية المدنيين، ودعم مسار الاعتراف بدولة فلسطين وفق قرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية التي تبنّيناها في قمة بيروت عام 2002، و"إعلان نيويورك" لحل الدولتين الذي رعته كل من المملكة العربية السعودية وفرنسا.
وفي هذا الصدد، فنحن في لبنان نؤكّد رفضنا لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين أو توطينهم في بلدٍ آخر رفضاً قاطعاً، ونشدد على ضرورة الاستمرار في دعم وكالة الأونروا لتتمكن من أداء دورها الإنساني تجاه الأشقاء الفلسطينيين، فضلاً ان دعمها هو دعمٌ للاستقرار في الدول المضيفة أيضًا.
من الأطلسي الى المتوسط فالخليج والبحر الأحمر، تتقاطع شرايين التجارة والطاقة والغذاء، وتُختبر قدرة العرب على بناء منظومة أمنٍ مشترك. والمطلوب اليوم رؤيةٌ متكاملة: أمنُ الممرات البحرية، وتكامل سلاسل الإمداد، وتطوير القدرات السيبرانية، وصون البنية الرقمية التي باتت خط الدفاع الأول عن أمن الدول.
والأمن العربي يمتدّ من الممرات البحرية إلى أحواض الأنهار، من مياه النيل إلى البحر الأحمر، ومن القرن الإفريقي إلى المتوسط، لأنّ أمن المياه والطاقة والغذاء هو وجهٌ آخر لسيادتنا. فمن القضايا التي ينبغي أن تُدرَج في صميم التفكير العربي المشترك هي قضية الأمن المائي، لا كملفٍّ تقني، بل كجزءٍ من الأمن القومي بأبعاده الاستراتيجية.
فالمياه في منطقتنا هي شريانُ الحياة، ومصدرُ استقرارٍ اقتصاديٍّ واجتماعيٍّ في آن. ولأن الأنهار الكبرى، وعلى رأسها نهر النيل، تشكّل عصبًا وجوديًا لدولٍ عربيةٍ أساسية، فإنّ أي اختلالٍ في توازنات توزيعها أو إدارتها العادلة يتحوّل سريعًا إلى مسألة أمنٍ قوميٍّ شامل.
من هنا، لا بدّ أن تتحوّل الدبلوماسية المائية إلى أحد أركان الأمن العربي، قائمةٍ على التعاون الإقليمي، واحترام الحقوق التاريخية، وتبنّي مقاربة “المصالح المشتركة” بدلاً من الصراع على الموارد. فحماية النهر، في نهاية المطاف، هي حمايةٌ للحياة،
أيها الحضور الكريم،
لقد حان الوقت لأن نؤمن بأنّ ما يجمعنا أكبر مما يفرّقنا، وأنّ ما يوحّد مصالحنا المشتركة أعمق من كل خلافٍ سياسيٍّ أو ظرفٍ آني.
فالعالم العربي يمتلك اليوم من المقوّمات ما يجعله قادرًا على الانتقال من الشعور بالانتماء إلى هندسة المصلحة المشتركة.
فالمصلحة المشتركة، حين تُبنى على الرؤية لا على الظرف، تتحوّل من خيارٍ سياسيٍّ إلى قاعدةٍ وجودية، ومن فكرةٍ إلى طاقةٍ خلاقة.
فهي ليست شعارًا يُرفَع في المؤتمرات، بل ركنٌ حيٌّ يُبنى ويُغذّى ويُسقى بالثقة والإرادة، وينمو كلّما صدقت نية الشركاء في حمايته.
والمصلحة المشتركة لا تُختبر في أوقات اليسر، بل في لحظات الشدّة. فالأزمات ليست نهاية الطريق، بل بدايته الجديدة.
فحين نحسن قراءة الأزمات، ونعرف كيف نحوّل الخسارة إلى معرفة، والفوضى إلى نظام جديد، نكون قد أعدنا اكتشاف المصلحة المشتركة كقوةٍ دافعةٍ للابتكار والتكامل لا كعبءٍ سياسي.
وهكذا، لا تعود الأزمات عائقًا أمام وحدتنا بل تحدياً لاثبات قدرتنا على التعاون.
المصلحة المشتركة، في معناها الأعمق، ليست صفقةً آنية، بل نظام حياةٍ مشترك يقوم على إدراكٍ متبادل بأنّ ازدهار كلّ دولةٍ عربيةٍ هو ضمانة لازدهار جاراتها، وأنّ الخسارة في أيّ ركنٍ من أركان الأمة هي خسارةٌ للجميع.
لذلك يجب أن نتعلّم كيف نُحوّل المصلحة المشتركة إلى حاجة، والحاجة إلى التزام، والالتزام إلى فعلٍ دائم.
فحين تصبح الشراكة حاجةً، يتحرّر العمل العربي من موسمية الخطاب إلى ديمومة المشروع، ويتحوّل التكامل من أمنيةٍ إلى قاعدةٍ للعمل المشترك.
إنّ بناء المصلحة المشتركة لا يعني إلغاء الخصوصيات، بل تحويلها إلى مصادر غنى. فالتكامل لا يعني التماثل، بل التعاون في الاختلاف.
ومن هنا يبدأ الطريق الطويل نحو النهضة العربية الشاملة، نهضةٍ تُقاس بقدرتنا على تحويل المؤسسات إلى إنجازات، والإنجازات إلى ثقةٍ متبادلة بين الشعوب والدول.
ولدينا كل المقوّمات لننجح: من الثروات إلى الطاقات، من الجغرافيا إلى التاريخ، من اللغة الواحدة إلى التجارب المشتركة.
ما ينقصنا ليس الموارد، بل ثقافة التخطيط المشترك، وإرادة تحويل الرغبة إلى برنامج.
ومن هنا، تتجلّى المصلحة العربية المشتركة كمنهجٍ شاملٍ يجمع بين الأمن والدفاع، والعلم والتعليم، والاقتصاد والبيئة، والصحة والتنمية.
فحين نُطلق منطقةً عربيةً للتعليم العالي والبحث العلمي لنسمه مثلا – برنامج ابن خلدون للتبادل الأكاديمي، نربط العقول العربية بشبكةٍ موحّدة من المعرفة والإبداع،
وحين نؤسس تحالفًا عربيًا للاقتصاد الأخضر والأمن المائي، نحمي الأرض ونستثمر في الحياة،
وحين نمدّ الممرات اللوجستية العربية–الإفريقية، نحول الجغرافيا إلى خطةٍ للتنمية لا إلى خط تماس.
وحين نحشد كفاءاتنا في المهجر عبر بوابةٍ عربيةٍ للخبرات، نحول الهجرة من نزيفٍ إلى عودةٍ للمعرفة ورأس المال.
وحين ننشئ آليةً عربيةً لتسوية المنازعات الاستثمارية، نمنح المستثمرين الثقة ونربط الرأسمال بالعقل.
وحين نمكّن النساء والشباب من مواقع القرار، نعيد إلى المصلحة المشتركة معناها الإنساني العميق: أن تكون السياسة في خدمة الحياة.
أيها الحضور الكريم،
نحن لا نبدأ من الصفر، بل من تراكم سبعة عقودٍ من التجارب، ومن إرثٍ لم يُستنفد بعد.
علينا فقط أن نستثمر في هذا الإرث، لنحوّل المصلحة العربية المشتركة إلى بوصلة النهضة العربية الجديدة، فيصبح التعاون خيارًا طبيعيًا لا فرضًا بروتوكوليًا، ويغدو التكامل العربي رسالةً عقلانيةً في عالمٍ يبحث عن توازنٍ جديدٍ بين القيم والمصالح، بين السيادة والانفتاح، بين الخصوصية والعولمة.
من هنا تأتي الحاجة إلى تحديث نموذج الجوار العربي بوصفه رافعةً استراتيجية للأمن والتنمية معًا، وإلى الانتقال من منطق ردّ الفعل إلى منطق المبادرة.
فالدول والمنظمات التي تصنع التاريخ هي التي تملك القدرة على التفكير بالمبادرات الكبرى، وعلى تحويل الجغرافيا إلى فرصة لا إلى قيد. إنّ شراكة الجوار العربي للأمن والتنمية يمكن أن تشكّل اليوم الإطار الجديد لفهم المصلحة العربية في زمنٍ يتغير فيه النظام الدولي. فربط ملفات الأمن المائي والطاقة والغذاء والرقمنة في شبكةٍ واحدة من المصالح المتبادلة، يعيد إلى جامعة الدول العربية دورها كفاعلٍ إقليميٍّ منتج.
أيها الحضور الكريم،
في ظل التحديات المتسارعة التي تشهدها منطقتنا العربية، يقف لبنان اليوم على أتمّ العزم في مواجهة واقعه بثباتٍ ومسؤولية. لقد افتتح لبنان صفحةً جديدة في تاريخه بانتهاج سياسة واضحة تقوم على الإصلاح والسيادة معًا: إصلاحٌ في مؤسساته وإدارته واقتصاده، وسيادةٌ كاملة على أرضه وقراره.
فالدولة اللبنانية تعمل اليوم على الالتزام الحقيقي باتفاق الطائف الذي يشكل أساس دستورنا وعلى تنفيذ قرار مجلس الأمن 1701 تنفيذًا كاملًا، انطلاقًا من ايمانها بالشرعية الدولية وتمسّكها باستعادة سيادتها وبسط سلطتها على كامل أراضيها، وحرصها على استعادة الحياة إلى القرى الجنوبية وإعادة الإعمار.
لقد شهد العالم على التزام لبنان بوقف الأعمال العدائية، لكنّ الخروقات الإسرائيلية ما زالت مستمرة، واحتلال أجزاء من أرضنا قائم، وملف الأسرى والمفقودين لم يُقفل بعد. ومن هنا، ندعو أشقاءنا العرب إلى الضغط على المجتمع الدولي لإلزام إسرائيل بالانسحاب الكامل من أراضينا ووقف اعتداءاتها المتكررة واطلاق سراح اسرانا.
وفي الوقت ذاته، يعتمد لبنان سياسة خارجية قائمة على عدم التدخّل في شؤون الدول الأخرى، كما يرفض أي تدخل خارجي في شؤونه. وهو يسعى إلى بناء شراكاتٍ استراتيجيةٍ متينة مع أشقائه العرب، إيمانًا بأنّ أمنهم واستقرارهم من أمنه واستقراره.
نقدّر عالياً تضامن الدول العربية مع لبنان في ظروفه الصعبة، ودعمها له في مواجهة الأزمات المتتالية. فرغم حجم التحديات الداخلية، يبقى لبنان، كما كان دوماً، منفتحاً على محيطه، ثابتاً في عروبته.
من هنا، فإنّ المطلوب من العالم العربي اليوم ليس الانكفاء ولا التنافس، بل بناء شراكاتٍ واقعية قائمة على المصالح الاستراتيجية المشتركة، المطلوب أن ننطلق مما هو قائم - من الاتفاقات، والهيئات، والمؤسسات العربية المشتركة - وأن نُعيد تنشيطها وربطها بمشروعاتٍ اقتصادية وتعليمية وتكنولوجية عابرة للحدود. فالتكامل الاقتصادي العربي ليس شعارًا، بل خطة بقاءٍ جماعيٍّ في زمن التحوّلات الكبرى.
هكذا، تُصبح الجامعة العربية عقلًا جمعيًا عربيًا يربط بين سيادة الدول ومصالحها، بين الهويّة والانفتاح، وبين الماضي والمستقبل. فالدبلوماسية الحديثة لم تعُد تكتفي بحلّ النزاعات، بل تعمل على بناء المستقبل، على إنتاج المعايير، وعلى صياغة المصلحة بلغةٍ العصر.
في زمنٍ تختلط فيه العواصف بالفرص، نتمسّك بجامعتنا العربية لأنها المؤسسة التي تجمعنا والإطار الذي يستطيع تحويل هويتنا المشتركة إلى سياساتٍ، والسياسات إلى مشاريعٍ، والمشاريع إلى واقعٍ في حياة الناس.
وحين نثق بأنفسنا وبطاقات شبابنا، نستعيد موقعنا في العالم كما كنا: صُنّاع فكرٍ، ومراكز معرفةٍ، ومؤمنين بقدرة الإنسان العربي على النهوض مهما أثقله التاريخ. العروبة ليست ذاكرةً، بل أفقٌ مفتوح نحو المستقبل، مشروعٌ يتجدّد مع كل جيل.
المستقبل يبدأ عندما نقرّر أن نكون جزءاً منه، لا مجرد شاهدين عليه، وحينها نكتب مجدداً تاريخنا المشترك.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق